كسب الحلال وإقصاء الحرم
الدكتور خوندكار عبد الله جاهنغير، أستاذ في قسم الحديث، الجامعة الإسلامية، كوشتيا، ورئيس سابق لوقف السُّنَّة
الكسب الحلال وتجنب الحرام
الاعتماد على الكسب الحلال والمشروع وتجنب الكسب الحرام والممنوع هو من الفرائض العبادية الأساسية للمسلم. بل إن قبول سائر فرائضه ونوافله عند الله يتوقف على ذلك. بسبب عدم الوعي بأهمية هذا الأمر، وقع كثير من المسلمين في لبس شديد. فهناك أناس متدينون يهتمون بالسُّنن والمستحبات، لكنهم غير مبالين بالكسب الحرام. وهذا -في نظر القرآن والحديث- ليس إلا نفاقًا. يقول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (سورة المؤمنون: ٥١).
هنا نرى أن الأكل من الطيبات شرط مسبق للعمل الصالح. هناك نوعان من الحلال والحرام:
طعام حرام دائماً: كلحم الخنزير، والخمر، والدم المسفوح، ولحم الميتة، وغيرها. هذه الأنواع يُباح أكلها في حالات الضرورة كما ورد في القرآن.
طعام حرام بسبب الكسب: مثل الربا، والقمار، والرشوة، والسرقة، والظلم، والمهر غير المشروع، والاحتكار، والتجارة غير الشرعية، والابتزاز، والتطفيف في الميزان، والغش، والكذب في البيع، أو أخذ الراتب دون أداء الواجب الوظيفي، أو الاستيلاء على ممتلكات الدولة أو العامة. لم يرد في القرآن أو الحديث أي استثناء لإباحة هذا النوع من الكسب الحرام لأي سبب.
وبهذا نرى أن أخذ أموال الآخرين بغير الطرق التجارية المشروعة في الإسلام هو حرام. أي انتهاك لحقوق الآخرين بغير حق محرم. وقد حذر القرآن والسنة بشكل خاص من عدة أنواع من الكسب الحرام. كما في الآية السابقة التي تحرم أخذ مال الغير إلا بالتجارة المشروعة. فالمهر القسري (الجاهلي)، والابتزاز، وغيرها من الظلم تدخل في هذا. فالمهر الجاهلي مثل الابتزاز والإرهاب، فهو أخذ مال الغير بالقوة أو الإجبار. والمعاملة الشرعية في الزواج هي أن العروس أو أهلها لا يدفعون شيئًا للعريس، بل العروس فقط تنتقل إلى بيت الزوجية، وعلى العريس دفع المهر لها. ووليمة العرس من مسؤولية العريس. وأي مطالبة خارج ذلك حرام، حتى إجبار والد العروس على استضافة ضيوف العريس بغير رضاه أمر غير جائز. اللهم احفظنا من الحرام.**
ومن المعاملات المحرمة صراحة في القرآن والسنة: التطفيف في الميزان، والغش، والخداع، والاحتيال، وأخذ أموال الدولة أو العامة، وأخذ الربا أو إعطاؤه، وأخذ الرشوة أو إعطاؤها. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة جداً في تحريم التطفيف والغش لدرجة أن جمعها يحتاج إلى كتاب مستقل. قال تعالى في سورة المطففين:
وأمر القرآن الكريم في مواضع عديدة بإعطاء الكيل والميزان بالعدل، وحرّم جميع أنواع الغش والنقصان، وحذّر من عذاب الدنيا والآخرة لمن يفعل ذلك. قال رسول الله ﷺ:
ومن الأمور التي حذر منها الحديث الشريف بشدة: الغش والخداع والتدليس. ويشمل ذلك تغيير اسم الشركة المصنعة أو بلد المنشأ، أو تزوير المكونات المكتوبة على المنتج. وأي شكل من الخداع أو إخفاء الحقيقة يعد غشاً. قال النبي ﷺ:
ومن صور أكل المال الحرام والغش معاً: تقاضي الموظف راتبه كاملاً مع التقصير في العمل، سواء كان في القطاع العام أو الخاص. فالتغيب في أوقات العمل، أو الإهمال في الأداء، كل ذلك داخل في هذا التحريم.
ومن المحرمات في القرآن والسنة: الغلول، وهو أخذ المال الحرام عامة، وأخص منه أخذ أموال الدولة أو العامة عن طريق السرقة أو الاحتيال. ولا يليق بنبي أو صالح أن يخون في الغنائم أو الأمانات. قال الله تعالى:
ومن طرق الكسب الحرام المحرمة صراحة الرشوة. فمن يتقاضى راتباً أو أجراً مقابل عمل معين، ثم يأخذ هدية أو مكافأة إضافية من المستفيد أو أي شخص آخر مقابل ذلك العمل، فهذه رشوة. وكذلك ما يقدم من هدايا لاستمالة المسؤولين أو القضاة يعد رشوة في السنة النبوية. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
ومن الكسب الحرام الخطير الربا، وهو الزيادة المشروطة على القرض مقابل الزمن، أو التفاضل في بيع الأموال الربوية. وقد حرم القرآن والسنة الربا تحريماً شديداً، وذكرت عقوبته الوخيمة. قال تعالى في سورة البقرة (٢٧٥-٢٧٩):
وفي الأحاديث، شبه النبي ﷺ آكل الربا بالزاني، بل جعله أشد إثماً.
ومن أخطر آثار الكسب الحرام أن الله لا يقبل معه العبادات. فقد قال النبي ﷺ:
من الأحاديث النبوية نعلم أن الذنب لا يُكَفَّر بذنب آخر. فإذا أنفق الإنسان من كسب حرام، لا يبارك الله فيه، وإذا تركه ورثته، يصير زاده إلى النار. قال رسول الله ﷺ:
"من جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إثره عليه".
وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل كان في منصب إداري فظلم وكسب مالاً حراماً، ثم تاب وأنفق هذا المال في الحج والصدقة وأعمال الخير. فقال: "الحرام لا يُكَفِّر الحرام، إنما يُكَفَّر الذنب بالمال الحلال".
وسأل والي البصرة ابن عمر رضي الله عنهما: "أليس لنا أجر في هذه الأعمال الخيرية؟" فأجابه: "أما تعلم أن الذنب لا يُكَفَّر بذنب؟ مثلكم مثل رجل سرق ناقة حاجٍ ليركبها في الجهاد، فهل يُقبل جهاده؟".
الشيطان يوسوس للمؤمن بأن الذنوب الكبيرة مثل الربا والرشوة والغش والخيانة ستُمحى بالصلاة والذكر والصدقة، لكن هذا التفكير خاطئ وخطير. فالشيطان يوقع المؤمن في ثلاثة أمور:
الوقوع في الذنوب الكبيرة التي تتعلق بحقوق الناس.
عدم قبول العبادات مثل الصلاة والصدقة لأنها من كسب حرام.
خطر على الإيمان إذا ظن أن الصدقة من الحرام تُكفّر الذنب.
فما الحل لمن كسب مالاً حراماً في الماضي؟
التوقف فوراً عن جميع الكسب الحرام.
رد المال إلى أصحابه إن عرفهم، أو التصدق به نيابة عنهم دون توقع أجر.
الاستغفار والتوبة النصوح.
الإكثار من الأعمال الصالحة عسى أن يتغمده الله برحمته يوم القيامة.
اللهم أعنا على ترك الحرام وتقبل توبتنا، آمين!